عبدالرحمـٰن طـه

"قد شغفها حُبـــًّا"

---

جاءت هذه العبارة على لسان نسوة المدينة في سياق استنكارهن لفعل امرأة العزيز مع يوسف، فقد تملّك حبّه منها، واستقرّ في أعماق قلبها، وجعلها تتصرف دون اعتبار لمكانتها العالية، ودون مبالاة بالعواقب، وهي أحرى الناس باتباع التقاليد.. لقد شاع أمرها مع يوسف حتى غدا موضوعًا لنميمة سيدات المجتمع، وهذا مما تأباه نفوس السادة الكرام.

---

إنه الشّغف إذا، يتملك صاحبه ويسيطر عليه، فلا يحسب لأفعاله حسابًا، وكأنه مدفوع بقوة داخلية قاهرة، تسيطر عليه، وتُرهن حياته بهدفه وتُعْميه عما سواه.
الشغف أعلى درجات الحب وأصدقه، لقد تملكها حبّ يوسف وسيطر عليها؛ فبه تقوم وبه تقعد، لا يعنيها ما يُقال عنها، ولا تهمها العواقب وهي السيدة العزيزة.
الشغف امتلاء القلب بالفكرة وغفلته عمّا سواها، في الشغف من العماء بقدر ما فيه من التبصر، ولعل هذ ما جعل معاجم اللغة تضفي على الكلمة بعضا من ظلال الجنون.
لا يرضى الشغوف بقليل من الحبّ، ولا يتوقف حتى يتوحد بمحبوبه، ويتصل به بكل أشكال الوصل.. لا يعرف الشغوف الحكمة ولا المنطق، ولا يفكر في العادات أو التقاليد، مثل هذه الأمور لا علاقة لها بهذه الجذوة التي تتقد داخله، وتشدّه إلى مدارات المحبوب، ليطوف حولها، ويهيم في معناها الذي يمنحه معنى وجوده.
لم تقبل امرأة العزيز بأقل من يوسف كاملا، فلم تكتف - مثلا - بوجوده في قصرها، وأنها تراه كل يوم وتحدثه متى شاءت.
لقد أرادته كلّه، فدبّرت وراودت، ولم تحصل إلا على الصدّ والرفض، ولم تستسلم، ولم توقفها الإهانة !
وحتى حين شاع أمرها بين نساء المدينة، ووصلها استنكارهن، فكّرت وهي الذكية، في أفضل طريقة تخرسهن بها.. فماذا فعلت؟

---

لم تدافع عن نفسها بحجج إنشائية يسهل تقويضها، بل والسخرية منها، كأن تحدثهن عن سطوة جماله، ورشاقة جسده، ورجاحة عقله.. لم تفعل أيًّا من ذلك، وإنما جمعتهن وأعدت لهن وليمة، لا لتنفي التهمة عن نفسها، وإنما لتقيم عليهن الحجة، حجة الواقع القاطعة التي لا يمكن دحضها، وحين ظهر لهن أخذن به، وهتفن مستغربات مفتونات من بهاء طلته:

---

"ما هذا بشرا."

---

إنها واثقة تماماً من نفسها، واثقة من كمال طلة معشوقها، وواثقة من النتيجة التي سوف تنتزعها من أفواههن:
''ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم"
لقد أنصفن يوسف، إذ وصفنه بالملك الكريم، وكل كريم متعال عن الصغائر، مترفع عما يزري، كما أنصفن صديقتهن العاشقة، وأقررن بمحنتها وعظم الاختبار الذي تتعرض له.
ولكن هذا الاعتراف مجرد حجة (قولية) قد تُنكر بمجرد خروج يوسف وانتهاء الحدث، وقد يتنكر لها نكاية في صديقتهن.

---

وهنا، يقدم لنا المشهد الحجة الثانية، وهي حجة مادية قاطعة، فقد جرح النسوة أيديهن دون أن يشعرن.. وهذا دليل لا يمكن إنكاره، فأثره لا يمحى بسهولة، وغالبًا يكون هذا النوع من الأدلة المرجع القاطع في تبرير الأحكام.. (الإدانة أو البراءة) وهو ما سوف تستعيده القصة في النهاية لإثبات براءة يوسف.

---

وبذلك جاءت حجة امرأة العزيز من جهتين لا من جهة واحدة. وهذا هو الإعذار في الحب.!
لقد انتصرت العاشقة على نظرائها، وصار بإمكانها - من الآن فصاعدًا - أن تُفْصح عن مكنون قلبها، وما تخطط له:

---

فليس أمام يوسف إلا أن يستجيب، أو يسجن عقابًا له.. وهذا كلام على المكشوف، وهو أقرب إلى بيان المنتصر الذي يقف - وحده - في الميدان بعد أن صرع جميع خصومه، فهو يملي شروطه، وعلى يوسف - منذ الآن - أن يواجه جنون الشغف كاملا غير منقوص:

---

فإمّا أن يفعل وإما أن يسجن ..!

---

لا توجد خيارات أخرى، وهو في الحالتين مرتهن بقبضتها الناعمة أو الصلبة، وعليه أن يختار..

View more