يتقاسم عقلي فراغ قلبي، فيخبّؤه هنا و هناك و أنا أبحث عن سببٍ يدفعني للارتباط فلا أجد أحدًا فأهرب و أختبئ بين الغيوم في السماء، أتجاهل طرفات أمي عن الزواج و منشورات الآخرين بالعشرات و المئات، أتعجّب من كثرته كأنّه سلعةٌ فاتتني في موسم العروض و التنزيلات. لطالما تساءلتُ عن معنى الحب الحقيقيّ، لكنّني أتأمل ما بينَ أناملي الآن و أرى ما هو أجمل منه… صداقةٌ تغنيني عنه و عائلةٌ تُشبعني به منه.
كلّ يومٍ أُدرك أنّ الطفلةَ التي في داخلي لم تتعافى بعد، لا زالت مليئة بالجروح، تُحبُّ الحلوى و اللّعب بالدّمى و مسلسل أيروكا الكرتوني و تبكي حينما يحتجُّ عليها أحدٌ بصوتٍ مُرتفع. لا زالت تُحبُّ الوحدة و تخاطب نفسها و تغنّي بصوتٍ عالٍ عندما يصبح المنزل فارغًا. تلك الطفلة تسألني كلّ يومٍ مُرهقةً أسئلةً لا أعرف إجابتها، أسئلةً كََ "لما يؤذي الناس بعضهم بعضًا؟ و لما يتكلمون بألسنةٍ لا تُبالي بما تُوقع من ألم؟"
في الصلاةِ على النبي و غيرها من الأذكار راحةً للقلوب و استشعارًا لحال المعبود، لطالما حرصتُ أن أقرأ أذكاري و قلبي حاضر فأنصدمُ كيف تجلسُ في قلبي الطمأنينة و الفرح و الأمان. كنتُ أتسائلُ كيف لكلماتٍ بسيطة أن تُهدّأ ضجيجًا يملأني و تُطفئ نيراني، فيُجيبُني لِساني بِـ …. الحمدُ للّه.
بداخلي ألم، لا أعرف كيف ألمُّ شتاته. ألمٌ مُبعثر و ممزّق و طريقهُ مُظلم يصعبُ عليّ اكتشافه. يُحيطني من كلّ جانب و يرفعُ رأسي إكراهًا كي أراه، يُخبرني كم أخطأتُ حساباتي و كم أستحقّ الأسوأ. أنتظر أصداءً تُخبرني أن الأصوات التي في رأسي ليست على حقّ، أريدُ أن يخبرني أحدهم بأنّ الوقت مُلكي و أنّ الأمواج لن تتلاطم ضدّي هذه المرّة. أريدُ أن يأتي كلّ شيء …على ما يُرام.
أريد أن أقضي معكَ يومًا كاملاً، أُخبرك فيه عمّا حصل في الأعوام الماضية و كيف عبرَ الخريف خلالي مِرارًا و تشققت صخوري و أنا أنظر إلى جدرانك. أريد أن أخبرك عن الحمقى اللّذين يحاولون مغازلتي، و يبتعدون حينما لا أنبهر بكلامهم الخفيّ، لا يعلمون أنّ امرأةً جميلةً مثلي لا يرمش لها جفنٌ بكلامٍ لا يخاطب قلبها الوفي. يتأملونني كتمثالٍ في متحف، الأمر مزعج يا عزيزي فأنا لا أرى لمعةً تُريحني في أعينهم و لا حبًّا مُخلصًا كالقصائد و الأفلام، و أشعر بذلك الجوع في أنفسهم. جوعٌ ليس للحب ذاته، بل لرحلاته الترفيهية و متعته المؤقتة و هفواته اللّذيذة و رسائله النّصية الليليّة، جوعٌ ما أن يُشبَع، أعلمُ تمامًا أين سيكون بعدها قلبي و في أي مصحةٍ نفسيّة سأبدأ فيها بمعالجة نفسي. يريدون الاشتراك في خدمةٍ عاطفية، لا أعلم ما خطبهم؟
لازلتُ أبحثُ عن أبي…أتساءل في أيِّ غيمةٍ يختبئ و لما توقّف عن محادثتي، ما زال اسمه على قائمتي و لكنّه لا يُجيب اتصالاتي، ما زلتُ أنتظر قدومه كلّ ليلة محمّلاً بكلّ ما تشتهيه نفسي، أنتظر أن يناديني لأجربَ طبقًا جديدًا قام بإعداده بكلِّ حبّ، أنتظر أن يستيقظ في الثلث الأخير من الليل ليخبرني أنّ السهر مضرٌّ للصحة و أن أهوّن عن نفسي و أذهب إلى النوم، ما زلتُ أضع كأسًا إضافيًّا من الشاي على المائدة و أنسى كؤوسًا من الماء على منضدته، أحرصُ على تركِ مقعده المفضّل خاليًّا و أضع جهاز التّحكم قربًا منه.أنا أعرف تمامًا أين هو أبي، ولكنّني أخشى زيارتهُ حتى لا أُدرك حقيقة خسرانه.
بعد أن تنتهي رحلة الألم و تهرب الدماء من الجسد و تجفّ الدموع تِباع حُزنٍ طويل، تبقى النّدوب التي استغرق شفاءُها العمر كلّه، و بعضَ الفُتات من ذكرياتٍ أحرقتُ ذاكرتي لأنتزعها. حينها يُصبح الطّريق أقلُّ اعوجاجًا، و الماضي أكثرَ وضوحًا، و أُدركُ أنّكَ جرحٌ عميقٌ لن يُشفى كُليًّا مهما فعلت و أنّكَ لم تكُن شخصًا سيّئًا-ليس بالكامل على الأقل- و أنّني لم أكن ملاكًا أو ضحيّة - ليس بالمجمل على الأقل-. كُلّ مافي الأمر أنّنا أسأنا للعِشرة قليلاً و اخترنا طريقًا خاطئًا بِكُلّ أرصفته، فضّلنا التجاهل و الكتمان على مواجهةٍ و مصارحةٍ كانت من حقّ كلينا. أستنتج من رحلتنا أننا ركبنا مركبًا مثقوبًا، فكيف يكون ذلك ذنبَ إحدانا بالله عليك؟ أنتَ شخصٌ جيّد و هذا أمرٌ كافٍ لِتُكمل طريقك بلا تمثيلِ أدوارٍ أو تحريف أحداثٍ و ها أنا أكتب صكّ غفرانك، و أُبرّئكَ من كل آلامي و أدعو اللّه أن يكتب لكلينا سعادةً منفصلة لا نلتقي فيها ولا نتقابل. اهٍ لو تعلم أنكَ ما زلتَ تأتيني بأشخاصٍ آخرين، لا يُشبهونك بتاتًا و لكنّني ما زلتُ أحملُكَ في كفّي و أحمل مرآتكَ في يدي الأُخرى فلا أرى غيرَك في غيرِك. أمرٌ بالغَ السوء المضطرب و مليئًا بأسئلةٍ لا أعرفُ إجاباتها، و لكنّني أملك إجابةً واحدة تُخفّف تشتّتي، إجابة تُرضيني قليلاً و تُرهقني أحيانًا، حاولتُ إنكارها و لكنّ صريخها يعلو نكراني، أُغلِّفُها لكي لا يراها الآخرين لكنّها تلمعُ قليلاً في عينيّ. إنها حقيقتي المُرّة الحلوة، قصّتي التي تعلوها كلمة "أُحبّك".
ألتفُّ و ألتفّ ثمّ أعود و تعود أنتَ باسمِ عشيقةٍ جديدة، لابد أنّها تشبهني، تكتب لها ورقًا تقليديًّا بينما تستلقي النسخة الأصليّة في درجي البائس. ألتفُّ و أعود لنفسِ المكان الذي التقينا فيه أول مرة، و حين أقرأ ما كتبناه على المقاعد، تشتاق نفسي و أطاوعها فأشتاق لرسائلنا المبهمة حينما كنتَ حبيّ الأول ولم أكن أعرف بأنّني معشوقتك الثالثة عشر. كنتُ في كلّ مرّةٍ أعود فيها أسأل نفسي لما عدتُ لمكانٍ لم يعد يسعني؟ لمَ لازلتُ مصرّةً على إحياء الماضي؟ أتوسّل، أبكي، أتألّم، أنزفُ و أنظر إليكَ لِتُحيي الجزء الذي قتلته فيَّ؛ لتعلّمني كيف أحبُّ شخصًا آخر، لتخبرني كيف يتخطى المرء كما فعلت، لترشدني إلى طريقٍ تهون فيهِ القلوب. ها أنا ألتفُّ مرّةً أُخرى، يدايَ فارغتان و عيناي متعبتان و قلبي مرهق ليُحاول تارّةً أُخرى، ألتفُّ و أنا على يقين أنّني سأعود دائمًا إلى أن تُعطيني إجابة.
مرّت خمسة أعوام كلمحِ البصر، ما زلتُ أُنكر لقاءنا الأول....سهمٌ أوّل، طعنة، و الكثير الكثير من الحروق التي جعلتني أُدرك أنّني مجرّد نُسخة، تذكرة للماضي يشتريها العاشق ليرى محبوبتَهُ في حواسي، و كأنَّ عينايَ آلةً للزّمن تُعيد لكنّها لا تستعيد. فلماذا يسترجعُ خلالي ذكرى السابقين و أنا هُنا في الحاضر و المستقبل؟ ألا يرى خيبات الأمل المُختبئة وراء شفاهي؟ ساذجة و غبيّة، هذه نتائج تجاربي العاطفيّة. كم أحببتُ جُهدًا صغيرًا مبذولاً اتجاهي بصدق و أنا لا أعلم أنّني القمر الذي يستحق أن تُصنع الأمواج من أجله. كم تنازلت حتى أبني حُبًّا صادقًا و لكنّ الجفاء برياحه الخفيّة كان يصدُّ كلّ حجرٍ أبنيه برفقٍ و حب. لا أُجيد قراءة الملامح، جميعهم يرتدون الكثير من الأقنعة، و أنا لا أملك طاقةً كافيةً لأزيل كل واحدٍ منها. كُنتُ أصدّق ما يُقال و أنبهرُ بما أرى، لم تهمّني بتاتًا النّوايا و ماضيها و لذلك كنتُ فريسةً سهلةً لِكلّ ممثّلٍ بارع. كان اللّيل يمضي بداخلي كالنّهار؛ أشعرُ بِنبضات قلبي في كلّ دورانٍ لعقارب الساعة، كُنت أستيقظ بلا سبب، و لم أدرك أنّ الأسباب لا تدور حولي بل في داخلي. كُنتُ أدعي و أصلي أن أجد الراحة في المكان الذي يختاره قلبي، و نسيتُ أنّ رقيق القلب... لا يجد الرّاحة أبدًا.
أشرب كأس عُشبٍ آخر، ، كأس ماء، كأس دماء، كأس... سأنسى حتمًا سأنسى، سأنسى ندوبي و الخذلان الذي مرّ به جسدي من الطريق ذاته ككلّ مرة، سأنسى حبيبي الخائن و أصدقائي المُخادعين، سأنسى أنّني لا أستحق الحبّ كشخصٍ لعوبٍ مُنافق يُحبّه الجميع، سأنسى عائلتي السيئة، سأنسى أخطائي و آفاتي التي لا تنتهي. متى سأنسى هو أمرٌ لا يعنيني، ما أعرفه الآن هو أنّني سأشرب البحر مالحًا كان أم حالكًا، سأشرب العالم إن تطلّب الأمر... حتى أنسى.
كنتُ سأرضى لو كان أبي شكليًّا فقط؛ لأنطق كلمة "بابا" مرّةً أُخرى، و لكن الصدمة ما زالت ترجمني في كلِّ مرّةٍ عُدتُ فيها لِصوابي، ما زال عقلي غائبًا عن الحقائق، بل متعمدًّا في عجز الاستيعاب، تلتف حولي الحروف و تلتهمها وسادتي بكل برودٍ قبل أن تتساقط الهموم عن كتفي حبرًا، و تتجمد الدمعة الأولى قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في جوف عيني المُتعَب، و احتقان الحبر يملأ جوفي ألمًا، و أنا ما زلت أتساءل متى ينتهي هذا الكابوس؟
كان لُطفي مخزنًا عليَّ التَّخلصَ منه، التّبرع فيه؛ فحين لا أفعل ذلك تُحاوط حبال اللُّطف عنقي و تُشعرني بأنّ اللُّطف لا يكون سوى للآخرين، كبضاعةٍ خُتم عليها اسم المشتري و أنا البائع الذي لا يستطيع شراء بضاعته.
أُمسكُ قلمًا لأكتب لكَ مديحًا ثم أكتشفُ أنّه رِثاء، بعدها ألوّن لوحةً فأتعثّر بملامحك بين زُجاجٍ حادٍّ و فُتات، أكتبُ حرفًا يُخبرني بأنّكَ هُنا معي دومًا، لن تُفارقني حتى لو رفضتُ مرةً أو مئات المرات. حينها أستيقظ و دمي يعمُّ الأرجاء، لستَ معي أو بجانبي و يا لها من ملحمةٍ لا تستحقُّ الثّناء! أتساءل من أسال كلَّ هذه الدُّموعَ و الدِّماء؟ كمن فقدَ ذاكرته و لا يُريدُ التَّذكُّر، أصمتُ و أكتفي بأنّ جناحيَّ رُبّما ... لا يزالان على قيد الحياة.
أظنُّ أنّها المرة الثانية التي تُراودني فيها رغبة الموت، و الاستسلام. أيا ليت لو يتوقف شروق الشمس مثلاً أو أن تتوقف الأرض عن الدوران . أشعر بأنّ جسدي لن يستحمل المزيد... لكنّني ما زلتُ أُقاوم.
كان قلبي يضعف بعد كل مِحنة أتماسك فيها، كانت قوّتي تتآكل و صبري ينفذ و وجهي يشحب و روحي تبهت، كانت ملامحي تتلاشى أمامي في المرآة و نظراتي كانت تتشتّت... كرملٍ في الساعة الرملية لا يستطيع أحدًا إيقافه وقتي كان يُتلف.
ماذا حدث بعدك؟ تغيّرتُ كثيرًا يا عزيزي، تغيّرت فأصبحتُ أسامح من خذلني و كسرني و سامحتُ بالبدايةِ أنت، أصبحتُ أدعو لأعدائي بالهداية، و أتشبث بمن أحب بأظافري و أسناني. تغيرتُ كثيرًا فلم أعد أسمح لأحد الاقتراب مني شبرًا، و لا أن يسلك أحدًا ذاك الطريق الذي سلكتَهُ للوصول لقلبي و لو كان حُبًّا. تغيّرت ملامحي فأصبحت هشّة أمام كل من يُقابلها، صِرتُ طفلةً في جسدٍ شاب و روحٍ مُسنّة، حتى أصبح الآخرون يُنادوني بالخالةِ و العمة. انقلبت صفاتي، لم تعد كلماتي سُمّيّة، و لم يعد قلبي مُتجمّد، و بات قلبي يتّسع الجميع. أما عن حبّك، فلا زال في قلبي، آخذ منه أجزاءً أُوزّعها على الآخرين و أنسى نصيبي، فانتهى بيَ الأمر أنّني تعلّمتُ منكَ كيف أُحبُّ الجميع و أكره نفسي.
أنام و قلبي في غزة، و أستيقظُ على أملِ أن ينتهي الاحتلال فتعود فلسطين محرّرة و سوريا معمّرة و العراق كما كان، لترقص غزّة و تفرح السودان و تحتفل مصر و تزورنا لبنان، ثم تأتي ليبيا لتوحّد ألوان العلم و تأتي السعودية فنزور مكة مشيًا على الأقدام، و نرحّب بشعب الجزائر بالمفرقعات و الورود و تأتي المغرب و تونس فيُوحّدان الحدود، و يا ليت لو يؤلّف لنا اليمن نشيدًا عن الوطن و تغني لنا عُمان ألحانًا عن جمال الحريّة في المُدن، و تفتح لنا البحرين و الإمارات مطلاً على الأسماك و السفن، و تصنع لنا الكويت و قطر عملةً نُنافس بها الجميع في أوقات الأزمة و المِحنَ. أيا ليتكَ يا وطني لو تعود كما كنتَ يومًا في زمانٍ كان، فتمحو الذلّ و القهر الذي يحلّ بنا و ترفع هذا العدوان.
لا أعلم كيف كان يمرّ العيد في سنواتٍ كانت فلسطين بها تنزف، و الآن استطعتُ أن أفهم ما يشعر به الفلسطينيون كلّ عام تحت اضطهاد الاحتلال، لا فرحةً للعيد حين تُقصف غزّة ولا فرحةً للعيد حين يُستباح المسجد الأقصى، فرحتنا تبدأ حتمًا حينما يُهزم الاحتلال. كُل عام و من ضميره ما زال حيًّا بخير، كُل عام و الفلسطينيون أقوى، كُل عام و فلسطين حيّة في قلوبٍ لن تموت💙✨
أتُريدُ فُرصة؟فرصةً تُكمل فيها كسر ما تبقّى من قلبي، تُشبع فيها غرورك انتصارًا، تقتل فيها ما نجا منّي بعدك، فرصةً تُحوّل ذرّة النّعيم منّي جحيمًا.أخبرني، أحقًّا تريد فُرصة؟!
المشكلة أنّني أكرهُ طَبعك و طِباعك؛ أكرهُ كيف تبدو و كيف تختار ملابسك، أكرهُ ذوقكَ الموسيقيّ و أنّك تُحبّ السجائر أكثرَ منّي، أكرهُ كيف تُفكّر و كيف تتحدّث و كيف تُذكّرني بسيّئي الخُلق.. أنا أكرهُكَ أنت و لكنّي أحبُّ قطعةً مما صنعتُ منكَ في خيالي.