أستغرب كيف يمكنني استخلاص الأمل من كل هذا العجز الذي أشعر به وأحسّهُ في أطرافي، بإمكاني جعل الشمعة تُضيء لي عتمة غرفة كاملة.. وبإمكاني جعلها تحرقني، ويمكنني كذلك ترك الحريق يصل إلى الغرف الأخرى من ذاتي في اليوم الواحد الذي أفكر به، إلا أن ما أتوق إليه إبدال الشمعة بشيء آخر وذلك مستحيل.. فكل ما يضيء ينبثق من ما يُحرَق وكل ما يُضيء بإمكانه أن يُحرِق أيضا، حتى الشمس تُحرق وتُضيء.. وهكذا أفقد الأمل وأترجح بين احتمالين من احتمالات القدر وأقدّم نفسي قربانا لكليهما، نفسي التي تغرق في الضوء وتغرق في العتمة فلا تكاد تُفلت من إحداهما حتى تستلمها يد الآخر..
يُرهقني هذا الثبات التام.. حتى حين أختلس النظر إلى وجهي في المرآة أستكثر على نفسي لحظة الضعف الخالية التي لا ينظر فيها إليّ أحد، يحب المرء أن يكون كاملا رغم أن ذلك يتناقض مع فكرة إنسانيته، وأنا في نهاية اليوم شخصٌ بسيط، يريد نفس الأشياء التي يتوق لها الآخرون، تنتابني لحظات حزن عرضية، أضجر من الأيام البليدة، تهفو نفسي إلى اللحظات الحقيقية التي أعيشها بكل خليّة في كياني، أريد أن أتمكن من الحب دون أن أخاف الفقد، أن أحب كنهر لا يتراجع عند حصاة، واذا تفرعت به السبل انطلق فيها جميعا بكل قوته، أريد أن أختار بلا خوف من مغبّة الهزيمة، أريد أن تخور قواي.. وأن أقول بكلِّ ضعف أنني تعبت، أن أجد من يقبل فوضاي ويحاول ترتيبها معي، أن يكون ضعفي محل حب وقبول، أن أتمكن من الانغماس في إنسانيتي كاملةً دون خجل، أن أختبئ من العالم أو أن أتوقف عن الحدوث.. لكن هذا لا يحدث ولا ذاك، لا مكان يسمح لي بالاختفاء قليلا ريثما أحاول فهم ما أمر به أو أقرر كيف أتعامل معه، إن كونك إنسان تُختلج فيه كل هذه الحياة لأمرٌ عظيم لكنه يجيء بعلاته وفوضاه..
كما للموت سكرات.. للألم سكرات أيضا، لا تنتهي.. ولا يتأمّل المحزون انقضاءها، لا تتوقف بنوم ولا بيقظة ولا بتسلية، ولولا أن "لكل أجلٍ كتاب" لأدركنا الموت آلاف المرات، ولاستيقظنا بعد كل ميتة من ألم مثلما يستيقظ الغافي المستكين الغافل فزِعًا بعد كابوسٍ مخيف..
لا أريد أن أعود، إنني أعيشُ ماتبقّى من حياتي برغبة أن أذهب فقط، أذهب ولا أعود، مهما كانت خطورة الطريق أمامي ومشقّته لا تجبرني على العودة.. لقد كلّفني الوراء بما يكفي ليجعلني أخرجه من جميع الاحتمالات التي يمكنني النظر إليها، والأخذ بها عند الحاجة. تركتُ العديد من الأشياء الجميلة خلفي مراراً ومضيت، كنت أعي جيّداً بأنني سأدفع ضريبة أي قرار أتّخذه، لكنني لا أستطيع أن ألتفت، ولا أستطيع أن أُسيطر على نفسي عند مواجهتي لإغراء أي باب ينفتح أمامي.. لا أستطيع أن أعود، أُدركُ فداحة الأمر جيّداً، وأعلم بأن ماهو أسوأ من المغادرة وأفعله أنني لا أُغلق الأبواب من خلفي، أتركها مشرعة لتلاحقني ذكرياتها وأصحابها، وذلك أمر لا أستطيع السيطرة عليه.
جميلٌ من الإنسان أن تجتمع فيه الصفة ونقيضها، فيمتلك من الهدوء الروحي ما يُعيد تجديد نفسه، ومن الصخب ما يُطفئ كآبة الأيام.. يمتلك من الرزانة والعقل ما ينير له الطريق الصحيح، ومن التفاهه والجنون ما يُهدّء خوفه من أخطائه، من الرقة واللين ما يستطيع بها أن يحنو على من حوله، ومن الصرامة ما يجعله ليس سهل المنال للآخرين، المهم من كل هذا أن يعرف متى يُظهر كل صفة.. فيضعها في مكانها الصحيح.
ها أنذا أكتب لكِ ثانيةً، لأنني وحيد.. ولأنه يزعجني أن أناقشك دائما في الخيال، من دون أن تعرفي عن هذا النقاش شيئا أو حتى تتمكني من الحديث معي.. يبدو أن الغياب المؤقت جيد، فالتعود على الأشياء من حولنا يجعل الأشياء تتشابه ويصعب التفريق بينها، فالقُرب يُقزّم حتى الأبراج، بينما توافه الأمور والمألوف منها إذا ما نظرنا لها عن قرب تبدو كبيرة وذات أهمية. أما المشاعرُ العظيمة، تلك التي تأخذ من خلال القُرب قالب الأمور الصغيرة الروتينية، تكبر وتنمو وتأخذ بُعدها الطبيعي على حساب المسافة السحرية بينها وبين الأشياء، لقد خُطفتِ مني في ما يشبه الحلم، وها أنا أعرف بأن الوقت يقوم بما تقوم به الشمس والمطر للنباتات من أجل أن تنمو.. ففي لحظات غيابك، يظهر حبي لكِ على حقيقته، كعملاق يجمع كل طاقتي الروحية وكل خصائص قلبي، فهو يعيد شعوري بإنسانيتي لي مجددًا، لأنني أستطيع الآن أن أشعر بهذا الشغف الجم، وهذه الشكوكية التي تجبرنا على إيجاد العيوب في كل انطباعاتنا الشخصية والموضوعية، كل هذا مُصمم ليجعلنا صغارًا خائري القوى كثيري الأنين، لكن هو الحب، ليس من أجل الاستمرار في هذه الحياة عن طريق تلك التغيرات الحيوية، وليس من أجل نساء هذا العالم، لكن.. أنّى لي أن أجد وجهًا كُلُّ خواصّه، كل تجاعيده، هو عبارة عن تذكار لأجمل وأعظم لحظات حياتي؟ حتى آلامي المُبرحة اللامتناهيه، وخسائر حياتي الفادحة التي لا تُعوض، أراها في مُحيّاكِ الجميل، إني أُقبّل الألم قبلة الوداع؛ إذا قبّلتكِ.
وأنا.. حتى أنا لم أعرفني كما يجب، إنها نفسي التي ما زلت أُحدد ماهيتها، أكثر السُعداء بكاءً، وأطول المكتئبين أملا، الفاقد الذي يُجزل العطاء، المسالم رغم ضراوة الأعداء، يدهشه العمر رغم طول الضجر، ويصلُ رغم الضياع، ويفوز في عز الخسارة، ويُحسن الرجوع رغم كثرة الأخطاء، أكثر العارفين جهلا.. البسيط اليسير، ذو رأيٍ وذو حيرة، الكثير في عزلته، الوحيد في الزحام، كثير الضحك خاشع الحزن، الشجاع رغم فزع القلق، الخائف في اطمئنان، الفوضى الخلّاقة التي لا تفسير لها..
كيف لك أن تبدو متماسكاً هكذا، كيف لا يلاحظ جُلُّ من حولك ارتعاشة البدء في كل يوم، كيف لا ينتبه لك أحد وأنت تنفض الوساوس والشكوك والحزن وقلّة الحيلة كما ينفض المرء مظلّةً مبتلةً بالمطر قبل دخول الأماكن الجافة، أنت الذي ترتب هندامك.. وتجرب ضحكتك مئات المرات، ويتكوّرُ البكاء في حلقك فتبتلعه بنُبل، لا أحد يدري كيف تقاوم رغبتك في البقاء مختبئاً تحت هذه الأغطية من العالم بأسره، كيف تشذّب العبوس وتلملم آثار انهيار الليالي الماضية، وتتسلح بكل ما تعرفه من حكم الأمل وأكاذيبه لتمضي يوماً واحداً جيداً، كيف لا يعرف الناس أنك تجمع نفسك عندما تستيقظ كقطع ليغو متناثرة، ترصُّها باهتمامٍ قطعةً بعد أُخرى ما إن تنهض من سريرك وتواصل جمعك حتى تكتمل، لا يرى أحدٌ كل المحاولات الطويلة الجادة التي تتكئ عليها، لكي يراك العالم على هذا النحو اللطيف، أنت عظيمٌ للغاية.. وعظمتك تكمن في قدرتك الفذّة على لي عنق الحزن، ومرونةِ قبول الحياة بكل أطيافها الرمادية.
لا أستطيع إخباركِ بما أشعر به، أنا شخصٌ يخاف من إظهار مشاعره، ولا يستطيع البوح بها أو التعبير عنها أو حتى يتركها واضحة على ملامحه، أقوم بتخبئتها وأستبدل ملامح أخرى بملامحي الحقيقية، وهذا ما يجعلني أحيانا أحب فكرة التنكر.. ولدتُ في قرية، ونشأت في قرية، وكبرت في قرية، ربما لهذا السبب أصبحتُ جافًّا، ولا أستطيع التملص من هذه الغلاظة، لا أتذكر أنني احتضنت أبي أو أمي أو أحد أخوتي أو شخصا قريبا أو غريبا في طفولتي، أشعر بخجلٍ شديد وغير مبرر حين أحسّ بدمعةٍ تطرق باب عيني للنزول عند موقفٍ ما، وأشعر بشيءٍ ما أجهله يقف أمام وجهي ليمنعني من الابتسام في أحايين كثيرة، وبيدٍ تُكبِّلني لكي لا أفتح ذراعي من بعيدٍ لطفلٍ يركض نحوي بعد عودتي من سفرٍ طويل، أقف جامدا سواء كنت حزينا أو سعيدا، منهارا أو منتشيا، مندهشا أو لامباليا، لا أحد يستطيع تمييز ذلك من ملامحي وتصرفاتي، أما حديثي فمن المستحيل حدوثه، ولا أستطيع التظاهر بعكسِ ذلك.. لا أُفاخر بل أتألم، إنني أشعر بحمل يُجبر رأسي على الانحناء لثقله، لفرط المشاعر المتراكمة التي أحملها، لم أرغب بأن أكون شخصا كهذا، ولا أحب هذه الفكره الغليظة البغيضة، لكن ماذا بمقدوري أن أفعل؟ سوى إضافة همًّا آخر لن أستطيع الخلاص منه، وسيبقى بداخلي كالبقية.. أنا أُحبكِ يا امرأة، أُحبكِ صامتاً وجامداً وقاسياً، أُحبكِ بطريقة لا ترغبين بها، وبأسلوبٍ يجعلكِ بعيدة عن الثقة والطمأنينة، أُحبكِ ولا أستطيع أن أخبركِ بما أكنّه لكِ سوى هذه الكلمة المكرره والمبتذلة، أُحبكِ ولا أستطيع أن أرسم الدهشة على وجهي وأنتِ تتحدثين، رغم أن داخلي كذلك، لا أقوى بعدها أيضا أن أخبركِ بأنني قضيت أجمل لحظات حياتي بالاستماع لكِ، وأنني انتقلت إلى عالم آخر لم أشعر بشيء فيه عدا الرغبة بألا تتوقفي عن الحديث، ولم أرَ أي شيء آخر عدا ملامحك، أُحبكِ يا امرأة، أُحبكِ ولا أستطيع أن أقول لكِ بأنني أبدو خاوياً ومنسياً ومهمشاً أثناء غيابكِ، وبأنني لا أشعر بقيمة وجودي ما لم تكوني بجانبي، أُحبكِ.. وكم أكره هذه الكلمة التي كلما أردت أن أقول لكِ ما أشعر به تجاهكِ تخرج هي وتطبق على فمي متباهيةً بنفسها ومكتفيةً بوحدتها التي تجعلها باهتة، ولا توازي ما أريد قوله. صدقيني يا سيدة، أنني أُحبّكِ بقدر ما أحمله من ثقلٍ وأعباءٍ بسبب الشخص الذي أكونه..
إنني إذ أناجي الله يا سيد فرحان.. فإنني لا أفعل ذلك ليطهرني من حماقاتي الصغيرة! إنما أناجيه ليطهرني من الطريقة التي أرى بها الأشياء، مما لا يراه الناس.. وأراه أنا، مما لا يحسه الناس.. وأحسه أنا، من هذا السم الذي تغلغل في روحي ولا أعرف له ترياقا.. ومن هذه الرغبة التي تقودني طائعا نحو الأسفل..
وإن الأماني -وليست الكوابيس- هي ما تؤرق نومي يا سيد فرحان، تلك الأماني الحلوة التي تتسلل نحو عقلي كلصّ، وتعود بي إلى رحاب الماضي، لترسم لي عالما لم يعد بإمكاني العودة إليه، ترسمه كاملا.. بسقوفه وجدرانه وأبوابه وأرضياته وكراسيه الملوّنة، وترسم شمسا مشرقة وشوارع وأزقّة وأشجارا، وتحيك سماوات زرقاء وقمرا من حليب، وليال ماطرة، ونسائم غربية باردة تخلع قلبي من مكانه..وأراني هناك.. شابا قويا يافعا جالسا على طرف السرير مرة، ممسكا بكتابي مرة، وعاكفا على شيء ما مرة أخرى، أًًُبصر في عيني سعادة لم أعرفها، وأسمع في أذني ضحكاتي التي لم أضحكها،وأحس في صدري أحلامي التي لم أحققها..وكما يهوي نجم فجأة من سمائه، ينزعني شيء ما فجأة من ذلك العالم، ويقذف بي الآن وهنا.. فأنظر فيما حولي، ثم أغمض عيني وأدفن رأسي في وسادتي، وأصرخ بصوت مكتوم؛ أن دعيني وما أنا فيه أيتها الأماني المستحيلة..
سرًّا.. ودون أن ينظر أحد، حتى دون أن أعترف بذلك لنفسي أمام المرآة، أنا الآن واعٍ أن الأشياء التي لم أفعلها بالطريقة الحقيقية تفاقمت وخرجت عن السيطرة.. أن كل مرة تصنّعت فيها القوة كثّفت هشاشتي، أن كل لحظة تظاهرت فيها بالشجاعة جعلتني خائفا أكثر، أن الشتائم التي لم أقلها لمن آذاني أجّجت غضبي، واللحظات التي لم أصرخ فيها سرقت صوتي، وأن المرات التي تصرفت فيها كأني على قيد الحياة بينما أنا جثة هامدة قتلت شيئا في روحي، أنني حين شعرت بالهزيمة لم أكسر الصحون ولم أحرق الغابات ولم أهدم الجسور، ظللت آخذ كل ما في طريقي لبناء ما يهدمه الآخرون والحياة في نفسي.. حتى صيّرتني الأيام مع الوقت حطاما عشوائيا يقبع بجانب نصبٍ تذكاري رائع بنيته من دمي وروحي وفوضاي.. ويا لها من معركة خاسرة.
أريد أن أبكي أيامي الصعبة والليالي التي كدتُ أبكي فيها من الخوف.. أريد أن أبكي لأنني بعد كل هذا أعود وحيدًا بقلبٍ ثقيل، أريد أن أركض من هنا غير آسفٍ على أي شيء، أن أكتفي بالأشياء التي حدثت لي وبالأشياء التي غيرتني، أريد أن أنسى اللحظات التي كادت أن تقطع أنفاسي، أريد أن أبكي كل الأحلام الرائعة التي تخيلت أنها سوف تحدث لي لكنها لم تحدث، أريد أن أجمع ذكرياتي الجميلة وأترك ذكرياتي السيئة، أريد أن أبكي لأنني مثل درويش لا شيء يعجبني، لأنني مكتوف الأيدي ولأن العالم يأبى أن يعطني فرصة لأصنع عالمي الخاص، أريد أن أبكي لأنني لا أجد بجواري من أسكب عليه حناني وأقول له كل شيء دون وجل، أريد أن أبكي لأنني لازلت أسترق النظر إلى العالم البعيد الرائع وأقول له أن ينتظرني، أريد أن أبكي لأن ما أقوله لا يفهمه أحد ولا يسمعه أحد، أريد أن أبكي لأن كل شيء في العالم له ثمن، ولأنني فقدت كل شيء ولا أعرف كم سيسلبني العالم ليعطني شيئا آخر، أريد أن أبكي لأنني أكره ضجري وحيرتي وخوفي الدائم، أريد أن أبكي لأنني مُتعب، ولأن الحياة تدفعني دفعًا ولم أعد قادرًا على مواصلة المشي، أريد أن أبكي لأن الكلمات تُثقل كاهلي ولأنني لا أجد رغبةً في الحديث إلى أحد، أريد أن أبكي غير أنني لن أفعل.. فالبكاء ليس لي.