إخلع بدلتك الرسمية والتي يكفي سعرها لإطعام عائلات كاملة , وذُق طعم الفقر مثلنا , ثُمَّ تعال وحدّثنا عن الصبر . مرّغ أنفكَ بِتُراب الوطن بعد أن تتخلّص من عربتك الفارهة ثُمَّ حدّثنا عن الوطنية . أسقطوا الملالي عن رؤوسكم , واخلعوا عباءاتكم المُطرّزة , وذوقوا ما يتذوّقه البائسون كُلَّ يوم قبل أن تُحدّثونا عن الفردوس في آخر طريق الصبر . واللهِ إنّي لأثقُ برجُلٍ مخمورٍ ينام في عرض الطريق أكثر من أيِّ رجُلٍ يلبس ثيابًا من حرير , وخاصًّة أولئك أصحاب البزّات الرسمية الذين يُحاولون تجميل الصورة النمطية الحقيقية التي نعرفها عن السياسيين وأيضًا أصحاب العمامات الزائفة الذين يبنون أحلامهم على أكتاف المُغيّبين عن الحقيقة . أنا واحدٌ من الملايين الذين مرّغَتِ الحياة بالتراب أُنوفهم آلاف المرّات دون عُذر , والفارق الوحيد بيني وبينهم أنّي أنطُق , وفي بعضِ الأحيان وإن لم يكُن في غالبها يكون النطق بالحقيقة الواضحة هو أخطر حتّى من حمل السلاح والتوّجه إلى معركة . أولئك كاذبون مُنافقون ولا يتوّرعون عن الصعود على أكتاف العامّة حتّى تنحني ظهورهم وتتحطّم أكتافهم لكثرة الضغط . ونحن ؟ نحن قطيع الخراف الذي يُساقُ تِباعًا إلى التضحية من أجل وهم , من أجل لا شيء . ماعلينا فعلهُ لهم هو الصمت وأن نتناول فُتات الطعام الذي يرمون به لنا حتّى يأتّي دورنا لنكون فِداءً لمن لا نعرفه ."مذبحة العقل البشري"
عن أبي ورثتُ الوله في النساء وحبُّ السجائر , وعن أُمّي الطمأنينة والشرود في السماء ... لمّا بدأت مراهقتي كان همّي أن أمشي على خُطى الوالد العزيز , أن أصير مُثقفًا قارئّا للكُتب الفائضة ودواين الشعر التي يمتلكها , لم يكُن لديَّ سببٌ واضحٌ لذلك سوا أنّي أمضي على طريقه , لقد كان بطلي الوحيد حينها هو المثقّف والدي الذي لم يترُك.كتابًا معروفًا ولا مغمورًا إلّا وقرأه , استهوتني قصائد الشافعي في مواساته لتعاسة الإنسان , وغزل نزار الصريحِ في جسد الأنثى , وفلسفة جبران في كتاباته عن قِسِّ الوادي والشيطان الذي أثرتُ تعجّبَ بأنّي أقرأ ذلك , حتّى أنّهُ قال حينها : "عمرك ١٤ سنة مارح تفهم هيك شي"! وتعجّبتُ أكثر من قوله إذ أنّي غرقتُ في كُلِّ حرفٍ كتبه جبران , وفهمت المغزى من جميع النصوص القصيرة التي احتواها الديوان , ولكنّي لم أُعقّب على ذلك , لن أمضي بعيدًا عن فكرتي التي أكتبها الآن بالحديث عن جبران وعن المغامرات التي أسرت قلبي في كتبه , كُنت حينها في الرابعة عشر من عمري عندما اكتشفت الكنز الذي يُخفيه والدي بين الرفوف , ركبتُ فرسًا واستللتُ سيفًا في سيرة المهلهل , حلّقتُ فوق الغيوم على ظهر الجنيّة في سيرة حمزة البهلوان , سافرتُ إلى شتّى أصقاع العالم وأنا في الرابعة عشر .. حلمت بأنّي السندباد في ألف ليلةٍ وليلة , وتزوّجت بنات السلاطين ونزلتُ القصور المشيّدة تحت المقابر في ذات الكتاب , لم أكتفي بذلك ولكن يكفي قولي هذا ليفهم القارئ كيف بدأتُ مراهقتي. وعلى ذكر المراهقة أوّد القول بأن الإنسان الذي يقرأ مهما تقدّم به العمر سيبقى البطل الذي انتصر في أوّل روايةٍ قرأها هو بطله الأوّل حتّى يموت , لن أنسى كتابي الأول , كانت روايًة تُسمى الطريق المسدود , وبطلتها فتاةٌ تُدعى "فايزة" الفتاة الشريفة التي نشأت وسط عائلةٍ من الفتياتِ اللواتي يُشبهن المومسات إلى حدٍّ ما , الفتاة التي كانت تقرأ لذلك الكاتب الرقيق المُرهف وأمضت أيامًا تحلم به على أنّه الشريف الوحيد في هذا العالم , حتى صدمها العالم كُلّه عندما رأتهُ ذات مساءٍ في أحضان أختها يحتسي الخمر , مالتِ الدُنيا بها حتّى انتهت في حُضنه تتقطّع أزرار قميصها .. لقد كانت "فايزة" بطلتي الأولى ومازالت حتى ينهشني العجز والهرم. وذلك الذي ورثته عن أبي , الروايات التي تكثر فيها الليالي الحمراء والكتب التي تصفُ نهود النساء وعِظام العجز في أواخر ظهورهن , كان ينتشي حينما يُمسك كتابًا وفي يده سيجارًا تختلط أدخنته بين طيّات الكتب , وذلك ما أغراني لأعشق السجائر والنساء اللواتي كان يُضاجعهنَّ عندما يقرأ. بيني وبين نفسي دائمًا أحاول التفكير , عندما قرأتُ أوّل كتابٍ وصف لي الليلة الحمراء بتفاصيلها خُيّل إليَّ أنّي البطل الذي لا تُنهكه أعتى الليالي الحُمر , هل ضاجعها أبي أيضًا عندما قرأ ذلك الكتاب ! هل ضاجعنا سويًة جميع النساء اللواتي ذُكرن في الكُتب ؟ لو كان ذلك فأنا وأبي وقعنا في الخطيئة الأدبية والتي تُغتفر إن لم تُذكر على العلن , ويا لوقاحتي ها أنا ذا أحكيها لكم ! ذلك ماكان من أبي وما ورثته عنه من النساء والسجائر .. وأمّا عن أُمّي فإنّها كانت تُشاهده يقرأ لساعاتٍ وهي صابرةٌ أمام شروده وخيالاته , وفي مُعظم الأحيان كان أبي يقرأ في حديقة المنزل , وأُمي تكون شاردةً في السماء .. لهما الحُبُّ ولي النساء والسجائر والصبر والشرود ... ?