معتصم، ما رأيك بهذا الوصف للشعراء الصوفيين: "أَدخُل إلى عالم المتدينين عبر الباب السري الصغير في آخر حديقتهم، باب الشعراء الصوفيين، أولئك البشر الهاربين من الناس، البعيدين عن العقائد والمؤسسات، أولئك الذين ينقلون الإحساس أكثر مما يُلقون المواعظ"؟
دعنا ننطلق من هذه المقدمة البسيطة.. وهي أنّ الشّعر هو التجربة، هو لا شيء غير التجربة. نحن ننكبّ على الشعر الحديث بحثا عن تجارب نعيشها لا عن علوم نعقلها، هذه الأخيرة يمكن التعبير عنها بمقال مثلا، أما الشعر فلا .. مشحون بالصور والمجاز والأخيلة ويلح على معنى ما يُعاش .. لا ليعقللذلك كان الأجدر بالسؤال أن يكون: هل تشعر بهذه القصيدة؟ لأنه لا يشعر بها سوى صاحب تجربة تخوله من فهمها والاستمتاع بها. هل استطاعت أن تلامس أعماقك؟ هل بإمكانك أن تتذوّق وتتذوّت هذه الأبيات؟ أي تجعلها جزءا من ذاتك؟ جوابي هو نعم جميلة كقيمة فنيّة، لكني بالتأكيد اختلف مع هذا المعنى العقلي للزهد، أعني المعنى السلبي المتمثّل بالانسحاب عن الحياة والانكفاء على الذات. ليس هذا هو الزهد الحقيقي الذي كان عليه الإمام أبو تراب علي بن أبي طالب، وليس هذا ما كان عليه شيخ الزاهدين مالك بن دينار الذي قال" ليس بزاهد من كان في الصومعة، إنما الزاهد زاهد المدينة" والحديث بهذا يطول .. جواد غنيمة له كلام مزبور في كتابه عن التصوف، أوصيك به.
أنالك الله مبتغاك، ومد لك روحًا تلقاه قبل أن تراه..
شكرًا لثرائك أستاذي، وأرجو أن لا يسلك مسلكك سوى الرجال، أما النساء، فلا يتبعن غير قول نزار -وأستغفر الله-:
"ترهّبتِ في عمر الورود.. ومن له
براءة هذا الوجه، هل يتقشف؟
أتبغين مرضاة السماء.. وإنما
بمثلك تعتز السماء وتشرف"
:(
رائع أستاذي..
لكن الغزالي -كما تعرف- قال: فالسفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه أو الوصول لمرغوب فيه، والسفر سفران، سفر بظاهر البدن المستقر والوطن، وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السماوات، وأشرف السفر سفر الباطن"
أليس في هذا السفر الظاهر (وهو يتوافق مع وصفك) إعطاء النفس رغائبها؟
بلى، وكان يقول ( الإحياء الجزء الثاني كما أذكر ): مالي وقطع الفلوات ولي غنية عنها في السماوات؟
السفر لأوروبا والتجوال بها وبغيرها؛ تتوافق والصوفية؟
الجواب هو نعم، بالتأكيدلعل أبرز ما يتسم به أهل العرفان هو محبتهم للسياحة، بيد أن السياحة هنا ليس المقصود بها ما يتبادر إلى الذهن الآن، وأنت تعرف ما أقصد وأكيد أنك تشاهده عبر الجوال، لا، ما هذا أردت. يرى المتصوفة أن السياحة هي "ليست تجاوزا للمكان، بل هي اكتشاف ضيق الوجود" هذا ما يقوله النفّري، قاصدا بذلك أن السفر والسياحة في الأرض هو غاية من يريد معرفة أن كل ما عدا رحابة التجربة الإيمانية متقضّي ومحدود، ضئيل ومنتهي، زائل غير ثابت، بما ما في ذلك السفر ذاته ورؤية أقاصي المعمور، قد يكون ضيّقا، منحسرا، ما لم تتذوق طعم التجربة الذاتية للإيمان، والتعرف إلى الله عن قرب. يقول التلمساني في ترجمته للنفّري أنه لم يجمع ما كتب، أي النفّري، وكان خامل الذكر بين أهل زمانه، وكان "لا يقيم في أرض ولا يتعرف إلى أحد" وذاك من فرط التوّله. لماذا كل هذا؟ من أجل قطع العلاقات عن ما سوى الله سبحانه، واقتلاع شواغل الأهل والولد والبعد عن شؤون البلد وما يشوّش الذهن والتفرغ للبصيرة وما يفيض عنها من أنوار، والقلب ما يعكس من لطائف، و"القلوب إذا صفت .. رأت" رأت الله حتى في مخلوقاته. يكون وقتها لكلّ شيء معنى، وخلف كل شيء مغزى، لأن" من كانت له فكرة كان له في كل شيء عبرةة لذلك يكون الإيمان وقتئذ تذوّقا، ثم، أفقا تأويلا مغايرا ترى من خلاله الناس والحياة بعمق جديد، وغريزة أكمل. تنقل سعاد الحكيم عن الجنيد أنه كان يقول: أحدّث الله من ثلاثين سنة، والناس يحسبون أنني أحدثهم.