أحمد البنداري

=D

---

"قال لها وهو يتأملها مثبتاً نظره فيها وكأنما تاه في وجهها وشفتيه تنفرج عن تلك البسمة الساخرة التي تكرهها : ما أسهل الخديعة بكِ سيدتي ، إذ أن الناظر إليك إنما يتلقي محاسن ملامحك بروحه وجسده معاً ، فيقع في أسر ملامحك بروحه إن كان من أصحاب الفضيلة ، أو يخضع بكيانه الطيني إن كان ممن تغلبهم شهواتهم ، وإن الأول ليتأمل فيقرأ في عينيكِ صورة الوحي المنزل علي أجنحة السماء ، أو أثر المسحة الالهية الكريمة علي الوجه الإنساني الأول ، أو الطهر المنحدر من عين تائب في محراب صلاته ، وإنه ليبصر في كل ملمح لك معني ، وخلف كل جمال لك حقيقة كبري تستعصي علي الفهم إلا أنها تؤتي بحاسة اللذة ، فهو يتغني بعيناكِ لأنهما له سر الصناعة الالهية البديعة في الجمع بين الجمال اللطيف والتكوين الدقيق ، وهو يري في انسدال شعرك ليل كون لا يطلع عليه غير صبح وجهك الغض ، وإنه يتابع مشيتك فلا يري فيها إلا كأنما هي قدر الله في سبي فؤاده وإنه ليتلاقاكِ إذ أقبلتي رهباً ورغباً كما يتلقي أيات الوعد والوعيد حتي إنه يهاتف نفسه كلما أتبع في صبح محاسنك نظرات قلبه : ويكأنها هربت من عدن أو تقاطرت من سحب تحت العرش ، أو تجامعت من ذكر الصالحين وصدح الذاكرين فلا تتطلع الروح منها إلا علي روح ، ولا يتقلب البصر فيها إلا علي نور يرتد عنها مهلالاً ومكبراً ، أو لعلها صورة الفتنة الرهيبة التي حُفت بها النار فلا يراها صالح أو طالح إلا علي وجل لأنها تكشف لهم حقيقة الغيب المخبوء عنهم من معني الفتنة الكامل .

---

قالت وهي مبتسمة في تحدي : فكيف يراها الفاسق؟!

---

قال : أما الفاسق فإنه يستقبلك كما يستقبل الكافر معبوده الأرضي ، فيرفعك بقدر ما ينال منك أو ما يتوقعه من اللذة بكِ ، وهو يتأملك ليستخلص من كل ملامحك خالص فتنتها فلا يراكِ إلا بعين شهوته ولا يتخيلك إلا مخمور الرأس متأجج النفس يكاد تنطق حواسه كلها : هيت لكي .

---

قالت وهي تبتسم ابتسامة الغيظ : وإني كلما أبصرت نظرة عينيك قلت معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي وإني لا أراك إلا فاسق العاشقين.

---

قال وكأنا يغيظها : بل تستعذين من سوء خاطراتك وما اطلعتي عليه من سوء أمانيكِ ونزغات شيطانك.

---

قالت : دعك من خاطراتي وخاطراتك فقد ضمنت لك الظاهر وضمنته لي وذلك ما حكّمنا الله عليه أما دون ذلك فعسير غير أن رأيت في حديثك خروجاً عن المعهود ولقد رفعت ناظريك بعد طول اطراق وتجرأت بقلمك بعد طول خوف ...فأصبحت في حيرة أي الناظرين أنت؟!

---

قال لها متحدياً في حدة : وكأنك تهتمين كثيراً لسبب تأمل الناظر إليك ؟! وإني قد علمت منك عجيب قدرة الله الذي يجمع في النفس الواحدة ما يتعذر علي الأفهام الكثيرة فإنك علي استواء جمالك واكتمال منظرك إلا أن نقص في اكتمالك يدفعك دائما للبحث عنه هناك في العيون المتلصصة أو العاشقة علي السواء وإني لأتساءل أحيانا كيف بها لو أدركت مني هي ؟! وعرفت من نفسها قيمتها ؟! أو لعلها عادة المرأة التي لأجلها وبها خلقت.

---

قطعت استرساله باسمة تقول : وكأنك تذكرت الكلام ونسيت صاحبته فأثبت حروفك وأضعت ذكرها ، وقدمت الحسن من وصفها ليتضح به القبيح مما تنتوي أن ترميها بها ، ويظهر البين شنيعا من تضاد الصورتين ، فتكون كالعاصي الذي أتي معصية ثم صاح يشنع علي رجله التي مشت إليها أو كالعطشان الذي أسقطه العطش في مجري النهر فلما أوشك علي الغرق سب النهر .

---

قال : أنا فاسق المحبين غير أني علي مجوني لم تتعطل حواس روحي بعد وتلك فتنتي بكي لو تعلمين ..."

View more