عندما أحببتك لم أقرأ اسمك.. عندما عانقتك لم أرى وجهك ولم أنظر إلى عينيك.. لكنني عانقت روحك ونظرت إلى أعماقك، أبصرت عيون قلبك.. أنت لستَ اسمك أو وجهك أو جسدك.. أنتَ من يعطي الأسماء قيمتها ويضيف للملامح بريقها.. أنتَ اشتهاء الأشياء أن تصير مرايا واشتهائي لو أصير هذه الأشياء..
اعتادت الأيام في غيابك على مضاعفة نفسها، اعتادت بوصلتي على الإشارة نحوك، ولم أستطع بعد الركض باتجاه يعاكسك.. هذا التوقف مؤلم جداً لأرجلٍ إعتادت على الركضِ بإتجاهك.. تأكل الحسرة من قلبي ببساطةٍ هكذا دون أن تشفق على ذاكرتي المتعكّزة عليك أو ترحمني من قسوة الشوق الذي يقدم أفكاري قرباناً لآلهة الأمل بلقائك.. لستُ على يقينٍ من شيء.. يعجن الشك أمنيتي الوحيدة خبزاً للوقت، ولا يبالي إن أكله الغبن.. هناك من غيّر الخرائط ليضلّ عمري طريقه إليك وأبقى في غابة القلق وحدي.. لا أدري من سيسبق الآخر إليّ؛ الموت أم رؤيتك.. رغبتي في عناقك متخمة بالحلكة، متشبثة بالغياب.. لا تشبع الحسرة مني مهما انتهيتُ، تعيد خلقي لتعيدَ قصاصها الأبدي..
وبعد حفنة من السنين، سترى أثر أسنان الحياة مغروساً في شخصيتك، ستكتشف بأن الحب لم يكن حباً، وأن شجاعتك كانت تميت بعضهم ضحكاً، وأن الخطط والأحلام كانت قصصاً مسلية لتمضية وقت جيد، ستحتضنك السنين لتلبسك ثوب البداية.. وتهمس في أذنيك: "أنت لست كما كنت تظن، أنت سراب، إبحث عنك فيك لتصل إليك"..
يَاربّ قلبي الذي كلما جرت عليه الأيام ازداد هشاشة.. كيف ياربّ.. كيف أواصل السير في طريقٍ يرميني بالحجارةٍ كلما حثثتُ الخطى، كيف ياربّ أتمسك بإنسانيتي في عالمٍ تعرى من كل ألوانه حتى بدا هلامياً لزجاً بشكلٍ يثير قرفي ويؤلم نفسي التي جاهدتُ لأحافظ على شكلها الآدمي..
مازالت تلاحقني كلماتي تلك التي لم أقلها لك.. أجدُّ بالهرب منها.. بلا طائل، بيد أنني أراكَ أينما وليتُ قلبي، تتجلى لي في أماكني المفضلة، وأيضاً تلك التي لا أحبها.. أسمعكَ جيدًا في كل أغنيةٍ تمر بي، وفي تلك الأغاني التي أتحاشى سماعها.. قل لي بربكَ ماأصنع في أمركَ وهو كل أمري.. إنني أحاول جاهدة، أقاومكَ بكل ما أوتيتُ من صمت.. ولكنكَ -من جهةٍ أخرى- تجتهدُ في نحت الكلمات على فمي.. إنها تقفُ على شفتي كـ يتيمٍ يترقب عودة والده وهو يعلم أن ذلك لن يحدث.. ليتكَ تكف عن الامتداد بداخلي، وعن انتشاركَ في مشاعري بوحشية.. إنني راغبة حقًا في الصمت، ولكن امتدادكَ فيّ يحول دون ذلك.. ليتكَ الآن بجانبي تضع يدكَ على تعبي، لأخرجَ بيضاء من غير سوء..
الأمر أشبه بأن تهيم في فلكٍ من العدَم وحدك، أن تفتقد المعاني الحقيقية للأشياء، فلا تعود للاكتراث بأيّ شيءٍ أو تهتم لأيّ أحد، وليس ذاكَ نضوجًا كما تظن، إنها أعتى مرحلةٍ من الوهَن قد يصل إليها الإنسان..
نحن مهجورون مثلَ أطفالٍ ضلّوا الطريقَ في الغابة.. إذا وقفتَ أمامي وتطلعت بي، فهل ستعرف شيئاً من الآلامِ التي فيّ؟، وأيُّ شيءٍ سأعرفه أنا من الآلامِ التي فيك؟..
إلهي أدعوك أن لا يذهب كل ما أرجوه منك عبثاً، أن تنجيني من السوء كأول المرات وقوعًا.. أن تسترني لأنه لولاك لما أكملت طريقي مرفوع الرأس بين خلقك، أن ترى خساراتي وأمنياتي التي يزاحمها الحزن وتبدلني خيرًا منها.. أن لا تغريني مفاتن الوجود وأنسى طريقك الأبدي، ترفّق بي لئلا أُضام وأتعب..
لو أضع روحي في إناء غسيل هل سيخرج منها التعب؟ هل سأشاهد قلقي وهو يغير لون الماء؟ لو قمت بنفضها، ماذا سيسقط منها؟ تلويحة؟ نظرة غارقة؟ كلمات أم حجر؟ لو وضعتها على حبل الغسيل هل سأموت من البرد؟..
أحسستُ أن شيئاً في حنجرتي، كما لو أنني بلعت العالم كلّه، لا أعرف حتى الآن ما إذا كنتُ حزينة، غيورة أم غاضبة، لكن الشعور الذي أحسست به في المقام الأول هو التعب..
و أجبرني يارب، كلما ازداد سوء الأيام معي و ثقلت، أجبرني كلما خابت ظنوني بالأشياء و انكسر الأمل في داخلي، أجبرني من كل وجعٍ احتملته طويلًا دون أن أشتكي، وحدك من يملك نفسي و وحدك من يمنحها الجبر و الراحة..